سورة الفاتحة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾
﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾
هذه الجملة، (البسملة)، هي مقدّمة جميع السور، مقدّمة الصلاة، مقدّمة جميع أعمال الإنسان المسلم وحركاته، أي إنّ بداية جميع الأعمال تتمّ باسم الله فقط.
كلّ ما للإنسان، وجميع مظاهر عيشه وحياته هي باسم الله. يفتتح المسلمون أيّامهم باسم الله، وباسمه يختتمون أعمالهم في النهار، وبذكره يأوون إلى فراشهم، وبعونه يرفعون رؤوسهم منه ليباشروا أعمالهم اليوميّة من جديد. وفي نهاية المطاف يودّع المسلم الحياة باسمه وذكره ويمضي إلى الدار الخالدة.
﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
كلّ حمد وثناء يختصّ بالله، لأنّ كلّ عظمة وجلال منه، وكلّ رحمة تصدر عن جانبه، وهو مَجمَع كلّ الخصال الحميدة، ومن فيضِ وجوده تصدُرُ كلّ الخيرات والحسنات وكلُّ جميل وإحسان، فيكون حمده، إذ، حمداً للإحسان والمعروف، وموجّهاً لجمع الجهود التي تبذل في طريق الإحسان.
وكلّ من يرى في نفسه شيئاً من الخصال المحمودة والسِّيَرِ الحسنة، ينبغي أن يعدّها من فيض الله ورحمته وعطفه ولطفه، إذ إنّ الله هو الذي زرع في الإنسان بذور الإحسان، وأعدّ فطرته وطينته وجعل من سجاياه تقبّل الإحسان والفضيلة، ومنحه قوّة الإرادة والعزم، التي هي وسيلة أخرى في طريق الخير والإحسان.
هذه الرؤية تغلق بوجه الإنسان أبواب العجب والغرور، وتحول دون تعطيل أو إفساد الخصال الحميدة، والقدرات الخيّرة فيه.
وفي جملة ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، يستشعر (المصلّي) وجود العالم والعوالم الأخرى ، ويستشعر أيضا قربها واتّصالها بعضها ببعض، فيدرك المصلّي أنّ هناك عوالمَ وأفلاكاً ومجرّاتٍ أخرى، خلف هذا العالم ووراء رؤيته الضيّقة، وخلف هذا السّور الذي افترضه لحياته، وأنّ ربّه ربّ جميع هذه الكائنات العظيمة. إن هذا الشعور يميت فيه النّظرة الضّيقة، والدناءة والخِسّة، ويمنحه الجرأة وروح البحث والسعي، والإحساس بالغبطة لعبوديّته لله تعالى، وتتجلّى له في عبادة الله عظمة وجلال عجيبان.
من جهة أخرى، يرى أنّ جميع الكائنات، البشر والحيوانات والنباتات والجمادات والسماوات، وعوالم الوجود التي لا تحصى، كلّها مملوكةٌ لله ومربوبةٌ له، وأنه هو مديرها ومدبّرها وخالقها جميعاً. ويفهم أنّ ربّه ليس ربّاً لعِرقِه أو شعبه أو ربّ الناس وحسب، بل هو أيضاً ربّ تلك النملة الضئيلة وتلك النبتة الضعيفة، ربّ السماوات والمجرّات والكواكب، وبإدراكه لهذه الحقيقة يشعر بأنّه ليس وحيداً، ويدرك أنّه قريبٌ من جميع ذرّات العوالم، وجميع الكائنات الدقيقة والكبيرة، وأنّه مُتّصلٌ بجميع الناس، وأنّ جميع الناس إخوته ومسافرون معه، وأنّ هذه القافلة العظيمة تسير معاً نحو هدف واحد وفي اتجاهٍ واحد.
وهذا الارتباط والاتصال يجعله مكلّفاً وملتزماً بالنسبة إلى جميع الكائنات. مكلّفاً بإرشاد الناس ومساعدتهم، ومكلّفاً بمعرفة بقيّة الموجودات واستخدامها في الطريق الصحيح المتناسب مع الهدف من خلقها.
﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾
رحمة الله العامّة - الّتي تتجلّى بشكل قوى خلّاقة وسنن وقوانين مُنقِذة و طاقة مستدامة - تسع جميع الموجودات، وكلّ شيء وكلّ شخص يحظى بهذه الرحمة إلى حين موته وزواله (الرحمان).
وأمّا من جهة رحمته الخاصّة، رحمة هدايته ومعونته، رحمة جزائه وعطفه، فإنّها تشمل عباده الصالحين. وهذه الرحمة تستمرّ معهم في هذه النشأة وتبقى كخطٍّ واضح على امتداد وجود هذه الموجودات الصالحة والشريفة حتّى الموت، وما بعد الموت، إلى القيامة، وإلى المنزل النهائيّ لوجود الإنسان. فالله تعالى هو المنعم بالرحمة العامّة والمؤقّتة، والمنّان بالرحمة الخاصّة والدائمة.
إنّ ذكر صفة رحمة الله في ديباجة القرآن (فاتحة الكتاب) وفي بداية الصلاة وبداية كلّ سورة لهي إشارة إلى أنّ محبّة الله ورأفته أظهر صفة في ساحة الخليقة والوجود، وعلى عكس قهره ونقمته التي تختصّ بالمعاندين والمفسدين والمجرمين، فتكون رحمته شاملة واسعة وعامّة1.
﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾
يوم الجزاء هو يوم النهاية والمصير والعاقبة، والجميع يسعى من أجل العاقبة. فالمادّي الملحد والعابد لله مشتركان في هذا الأمر، وكلاهما يبحث عن سبيل العاقبة والمصير، والاختلاف بينهما أنّ كلّاً منهما يفهم المصير بشكل مختلف؛ فعاقبة الماديّ هي ساعة أخرى ويوم آخر وسنة أو عدّة سنوات أخرى، شيخوخة وعناء وفناء؛ أمّا العابد، فنظرته واسعة ورؤيته أبعد من ذلك، وليست الدنيا في نظره مغلقة ولا محدودة ولا محصورة، بل الدنيا واسعة والمستقبل غير محدود، وهذا مستلزم لأمل لا حدّ له، وجهد لا يعرف الكلل.
فالذي لا يرى الموت موجباً لانقطاع الرجاء، ولا يفقد بالموت حصيلة عمله وانتظار الأجر والثواب، يمكنه الاستمرار حتّى آخر لحظة من حياته بالحماس والتحرّك ذاته الذي ابتدأ به السعي الجميل والعمل المرضي لله.
إنّ التنبّه والاستذكار بأنّ الله هو المالك، وصاحب القرار والجزاء في يوم القيامة، هو الذي يوجِّه المصلّي الوجهة الصحيحة، ويضفي على أعماله وجهوده سمة إلهيّة؛ فتصبح حياته بجميع مظاهرها لأجل الله وفي سبيله، ويبذل جميع جهوده وكلّ شيء عنده في طريق تكامل البشريّة وتساميها، الذي هو الطريق الوحيد لمرضاة الله تعالى. ومن جهة أخرى: يحرّره من الاعتماد على الظنون الواهية والآمال الكاذبة، ويقوّي فيه الرجاء الصادق في العمل. فإذا كانت المناهج المنحرفة والنظم الخاطئة في هذه الدنيا، تسمح للعناصر الضعيفة الانتهازيّة أن تحسّن أوضاعها عن طريق الخداع والرياء والكذب، وأن تغتصب ثمار كدّ الآخرين وكدحهم، إلّا أنّه في ذلك العالم (الآخرة) وتلك النشأة حيث إنّ الله العالم العادل مالك زمام الأمور جميعها، وحيث لا يمكن الخداع والكذب والرياء، فسوف لن يعطي أحداً فرصةَ الانتفاعِ من الأجر بدون عمل.
إلى هنا ينتهي الحديث عن النصف الأوّل من سورة الحمد المتضمّن لحمد خالق العوالم والعالمين، وذكر بعض أهمّ صفاته.أمّا النصف الثاني المشتمل على إظهار العبوديّة وطلب الهداية، فإنّه يشير بوضوح إلى مجموعة من أهمّ الخطوط الأساسيّة لأيديولوجيّة الإسلام.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
أي أنّ كلّ وجودنا وكلّ قدراتنا الجسديّة والروحيّة والفكريّة بتمامها هي بيد الله وهي خاضعة له ولأجله.
والمصلّي بتلفّظه بهذه الجملة يحرّر يديه ورجليه ورقبته من أغلال عبوديّة ما سوى الله، ويرفض مدّعي الألوهيّة والربوبيّة الذين كانوا على مرّ التاريخ السبب في تقسيمِ المجتمعات البشريّة إلى طبقات متفاوتة، وجعل أكثريّة البشر مقيّدين بأغلال العبوديّة والاستضعاف ويخرج نفسه وجميع المؤمنين بالله من حدّ الطّاعة والانقياد لأيّ شخص سوى الله وأيّ نظام غير النظام الإلهيّ. والخلاصة، أنّه بإقراره بعبوديّة الله يتحرّر من عبوديّة العبيد، وبهذه الطريق يجعل نفسه في سلك الموحّدين الحقيقيّين.
إنّ الإذعان والقبول بأنّ العبوديّة ينبغي أن تكون حصراً أمام الله ولأجله هو أحد أهمّ الأصول الفكريّة والعمليّة في الإسلام وفي جميع الأديان السماويّة، والذي يعبّر عنه بـ "انحصار الألوهيّة بالله" أي أنّ الله فقط هو الذي ينبغي أن يكون إلهاً (معبوداً)، وأن لا يكون هناك عبوديّة لغيره ولا يُعبد سواه.
وقد كان هناك، على الدوام، أناسٌ لا يحسنون فهم هذه الحقيقة، فكانوا يستنتجون منها أموراً خاطئة وضيّقة، لذلك ابتلوا على حين غفلة بعبوديّة غير الله. فقد ظنّوا أنّ عبادة الله هي بتقديسه ومناجاته وحسب، ولأنّهم كانوا يصلّون لله ويناجونه فقط، كانوا على اطمئنان بأنّهم لم يعبدوا سوى الله.
إنّ الإطّلاع على المعاني الواسعة للعبوديّة في عبارات القرآن والحديث يُظهِر وَهْنَ هذا التصوّر. فالعبادة، في اصطلاح القرآن والحديث، هي الطاعة والتسليم والانقياد المطلق للأمر، والقانون والنظام الذي يُعرض على الإنسان ويُفرض عليه من أي سلطة أو قوّة، سواء أكان هذا الانقياد وهذه الطاعة مع روح التقديس والمناجاة أم من دونهما.
وعليه، فكلّ الذين ينصاعون- طوعاً ورضا - للنظم والقوانين والأوامر الصادرة عن أيّة قدرة غير الله تعالى، هم عبيد تلك الأنظمة وعبيد الواضعين لها. ولو أنّهم، وهم على تلك الحال، خضعوا في جانب من حياتهم للأوامر الإلهيّة، وعملوا في جزء وحيّز من حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة بحكم الله وقانونه هم "مشركون" (يتّخذون مع الله إلهاً آخر). وأمّا إذا لم يجعلوا هذا الجانب وذلك النطاق من حياتهم لله تعالى فهم "كافرون" (الذين يتجاهلون الحقيقة الواضحة والساطعة لوجود الله، وينكرونها اعتقاداً أو عملاً).
يمكن بسهولة، من خلال الإطّلاع على هذه المعرفة الإسلاميّة، استنتاج مرام الأديان الإلهية التي جعلت كلمة "لا إله إلاّ الله" أولَ شعارٍ لدعوتها2 ماذا كانت تقول، وماذا كانت تريد، ومن كانت تواجه ولأيّ طرف انحازت؟
وهذه الحقيقة (حقيقة معنى العبادة) في المصادر الإسلاميّة (القرآن والحديث) هي على مستوى من التواتر والوضوح، بحيث لا يبقى معه أي شكّ لدى المتدبّرين وأصحاب العقول. وكنموذج على ذلك، نكتفي بذكر آية من القرآن الكريم، وحديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
يمكن بسهولة، من خلال الإطّلاع على هذه المعرفة الإسلاميّة، استنتاج مرام الأديان الإلهية التي جعلت كلمة "لا إله إلاّ الله" أولَ شعارٍ لدعوتها ماذا كانت تقول، وماذا كانت تريد، ومن كانت تواجه ولأيّ طرف انحازت؟
وهذه الحقيقة (حقيقة معنى العبادة) في المصادر الإسلاميّة (القرآن والحديث) هي على مستوى من التواتر والوضوح، بحيث لا يبقى معه أي شكّ لدى المتدبّرين وأصحاب العقول. وكنموذج على ذلك، نكتفي بذكر آية من القرآن الكريم، وحديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
قال تعالى: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾3.
وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾4.
قال عليه السلام: "أنتم هم ومن أطاع جبّاراً فقد عبده"5.
﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
لا ننتظر من أندادك ومن مدّعي الألوهيّة أيّة مساعدة أو أيّة معونة؛ فبالسبب ذاته والحجّة نفسها التي دَفَعَتهم إلى عدم القبول بألوهيّة الله، لن يساعدوا عباده السّاعين في سبيله. إنّ طريق الله هو طريق أنبيائه، طريق السعي في جانب الحقّ والعدل والتآخي والتضامن والتكافل بين جميع أفراد البشر، وإعطاء الإنسان قيمته، ورفض التعصّب والظلم وعدم المساواة (التمييز). وأمّا أنداد الله ومدّعو الربوبيّة الذين جعلوا أساس حياتهم الذّليلة وإمكاناتهم التي سطوا عليها من أجل تدمير القيم الأصيلة، أنّى لهم مدّ يد العون والمساعدة لعباد الله؟ إنّ هؤلاء في حرب لا سلم فيه، وطغيان لا حدّ له في مواجهة عباد الله.
فإذاً، نطلب العون والمدد من الله فقط: قوّة الذكاء والإرادة التي أودعها فين، الأسباب والوسائل التي منحنا إيّاها من أجل الحياة والعيش، السُّنن والقوانين الطبيعيّة والتاريخيّة، وهي التي لو عُرفت وكُشفت لأمكن أن تشقّ الطريق للعلم والعمل، وكلّ آثار قدرته التي هي جنوده المقتدرة الموضوعة في خدمة البشر.
﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾
إذا كان الإنسان محتاجاً إلى شيء أولى وأكثرَ حياةً من الهداية، فلا شكّ أنّ هذه الحاجة كانت ستُذْكَر، بلسان الدعاء والطلب من الله، في سورة الحمد التي هي فاتحة القرآن والقِسْم المهمّ في الصلاة.
يُصبِح العقل والتجربة في المسار الصحيح والمفيد والمنجي عن طريق الهداية الإلهيّة، ودون ذلك، يغدو هذا العقل وهذه التجربة مصباحاً في يد قاطعِ طريقٍ أو سكّيناً في يد مجنون.
الصراط المستقيم، هو ذلك المنهج الفطريّ الذي وُضع على أساس التقدير الصحيح لاحتياجات الإنسان الطبيعيّة وإمكاناته وقدراته. هو الطريق الذي فتحه أنبياء الله للناس، وكانوا هم أوائل الساعين إليه والسالكين فيه؛ الطريق الذي إن ثَبُت الناس عليه يكون مَثَلُهم كالماء الذي يجري مستقيماً في مجراه، ومتواصلاً بدون استعانة بأيّ قوّة أو سلطة نحو هدفه النهائيّ،ألا وهو بحر التسامي الإنسانيّ اللامتناهيّ. وهو برنامج، لو طبّق في قالب نظام اجتماعيّ في حياة البشر وتحقّق، لجلب لهم، بالتأكيد، الرفاهية والاستقرار والحرية والتعاضد والتكافل والإخاء، ولوَضَع َحدّاً لجميع مآسي البشريّة المزمنة.
ولكن، ما هو هذا البرنامج وهذا الطريق؟ الكلُّ مدّعٍ في هذا السّوق المضطرب، وكلّ جماعة ترى غيرها على خطأ. ينبغي أن يُحدَّد هذا الصراط المستقيم، في نظر القرآن الكريم، بالإلتفات إلى هذه المقدّمة القصيرة.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾
من هم أولئك الذين شملتهم نعمة الله وأُعْطُوها؟ لا شكّ بأنّه ليس المراد من النعمة المال والجاه والعِشْرة الماديّة (الدنيويّة)، فأبرز (أكثر) الحاصلين عليها كانوا دائماً من ألدّ أعداء الله وأعداء خلقه؛ بل المراد بها نعمة أكبر من هذه الزخارف، إنها نعمة تفوق هذه الألاعيب والمزيّفات، فهي نعمة اللطف والعناية وهداية الله. نعمة معرفة القيمة الحقيقيّة (الواقعيّة) للنفس والظفر بها والرجوع إليها.
وفي موضع آخر عرّف القرآن الكريم الذين أوتوا هذه النعمة: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ﴾6.
في هذه الجملة، يطلب المصلّي من الله أن يهديه إلى صراط الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، وهذا خطّ واضح على طول التاريخ. وهو طريق ظاهرٌ بيِّنٌ، ذو هدفٍ مشخّصٍ، وسالكون معروفون.
وهناك في مقابله خطّ آخر، وهو واضح أيضاً، وله أتباعٌ مشخّصون، وبذكر ذلك الطريق وسالكيه (صراط الذين أنعمت عليهم) يؤدِّب المصلّي نفسه ويحذّرها أن تطأ الطريق (المقابل) أو أن تنجرف نحوه، وهذا ما يظهر في تتمّة الدعاء السابق.
﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾
من هم الذين غضب الله عليهم؟
أولئك الذين سلكوا طريقاً آخر مقابلَ طريق الله، وجرّوا الكثير من الناس الآخرين، سواءٌ الغافلون منهم وفاقدو الإرادة والضعفاء، أم الواعون والمختارون، حيث قيّدوهم وحملوهم على السير معهم في هذا الطريق؛ والذين أمسكوا بزمام أمور الناس على طول التاريخ عن طريق القهر والجبروت أو الخداع والنفاق، وصنعوا منهم كائنات مجبرة وآلات تابعة (مستضعفة)، والذين أعدّوا وفسحوا المجال للرذيلة والعلاقات المنحطّة عن طريق استغفال الناس والتسلّط عليهم.
بعبارة أخرى، أولئك الذين صاروا مورداً لغضب الله عندما سلكوا طريق الضلال، لا عن جهل وغفلة فحسب، بل عناداً، وبسبب الأنانيّة وحُبّ الذات.
في واقع التاريخ، كانت هذه المجموعة تتشكّل من الطبقات العليا والمقتدرة ومن أصحاب النفوذ الدنيويّ، ودائماً ما كانت مقاصد الدين ترسم خطّ الإبطال والنسخ على فلسفة وجود هؤلاء، وكانت أوّل خطوة هجوميّة تخطوها أيضاً في وجه هؤلاء.
وما عدا هاتين المجموعتين - مجموعة المهديّين ومجموعة المغضوب عليهم-، هناك أيضاً مجموعة ثالثة ينتهي بها الطريق إلى ما ينتهي إليه طريق "المغضوب عليهم" نفسه7. الجملة التالية تشير إلى هذه المجموعة من الناس.
﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾
الذين سلكوا عن جهل وغفلة، اتّباعاً لأسيادهم المضلّين، طريقاً غير طريق الله والحقيقة؛ في حين كانوا يظنّون أنّهم سائرون في الطريق الصحيح، إلّا أنّهم كانوا يَخطون في طريق خطر، ويتّجِهون إلى نهاية مرّة.
يمكن أيضاً مشاهدة هذه المجموعة بوضوح في التاريخ: إنّ كلّ الذين كانوا يمتثلون أوامر أسيادهم في النظم الجاهليّة، ويطيعونهم إطاعة عمياء، وكانوا من أجلهم يخطّئون المنادين بالحقّ والعدل والحاملين لرسالة الله، وحتى إنّهم كانوا أحياناً يقفون بوجههم، ولم يسمحوا لأنفسهم، ولو للحظة واحدة، بإعادة النظر بهذا الموقف اللّامعقول.
ونحن نُسمّي هذا الأمر "غير معقول" (غير العقلانيّ) لأنه يحقّق مصالح الطبقات المستكبرة، ويعود بالضرر على هؤلاء الضّالّين أنفسهم. وعلى العكس من ذلك، فإنّ دعوة الرسل تستأصل شأفة الفئة المغضوب عليها ووجوده، وهذا بالطبع في صالح الطبقات المحرومة والمستضعفة، ومن ضمنها هؤلاء المغفّلون.
إنّ المصلّي، باستذكاره هذين المنهجين (منهج المغضوب عليهم ومنهج الضالّين)، تظهر فيه حالة الحساسيّة والدقّة والمراقبة بالنسبة إلى الطريق الذي ينبغي أن يسلكه، والموقف الذي ينبغي أن يتّخذه فيما يتعلّق بدعوة الأنبياء المنجية. وعندها، إذا رأى في سلوكه علامة على الرشد واهتداء الطريق، يلهج ثانية شاكراً هذه النعمة الكبيرة قائلاً: الحمد لله ربّ العالمين8.
وعلى هذا النحو، يكون قد تمّ جزء مُهِمّ من الصلاة. كانت هذه فاتحة القرآن التي نقرأها (فاتحة الكتاب).
إنّ فاتحة القرآن كمقدّمة أي كتاب تظهر صورة عامّة لمجموعة معارف الكتاب. فكما أنّ الصلاة تمثل خلاصة وصورة مصغّرة عن الإسلام، أشير فيها إلى الكثير من النقاط البارزة لأيديولوجيّة الإسلام؛ فإن سورة الفاتحة متضمّنة أيضاً للنقاط البارزة والخطوط العريضة للمعارف القرآنيّة، والمشتملة على خلاصة التوجيهات المهمّة فيه. ولهذا:
فإنّ العالَمين والعوالم وجودٌ واحدٌ متّصلٌ، أنشأه الإله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
كلّ شيء وكلّ شخصٍ هو تحت رحمة الله وعطفه، أمّا المؤمنون فلهم منه مورد رحمةٍ ولطف خاصَّيْن: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.
للإنسان بعد هذا العالم حياة مستمرّة ودائمة، وإنّ الحاكمية المطلقة في تلك النشأة هي لله: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
على الإنسان أن يتحرّر من قيد عبوديّة غير الله، وأن يحيا تحت ظلّ رعاية الله وتدبيره، بالخصائص الإنسانيّة وفي طريق الإنسانيّة، حرّاً مختاراَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
عليه أن يلتمس طريق السعادة والصراط المستقيم في حياته من الله: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
عليه أن يشخّصَ جبهةَ الأعداء وجبهةَ الأصدقاء، وأن يتعرّف على مواقفهم ودوافعهم واستراتيجيّاتهم، ليحدّد موقفه من كلتا الجبهتين بما يمليه عليه إيمانه: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾.
* من كتاب من أعماق الصلاة.
1- ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ سورة الأعراف، الآية: 156 يا من سبقت رحمته غضبه (دعاء مأثور).
2- يُرجع إلى سورة الأعراف، الآيات: 59ـ 158، وسورة هود، الآيات: 50ـ 84، فقد نقل أنّ عدداً من الأنبياء العظام رفعوا هذا الشعار في مقدّمة دعوتهم.
3- سورة التوبة، الآية: 31.
4- سورة الزمر، الآية: 17.
5- تفسير نور الثقلين: ج5/ ، ص 481. و الري شهري، ميزان الحكمة، ج2.
6- سورة النساء، آية: 69.
7- تمّ بيان هذا الأمر في آيات عدة من القرآن الكريم بلحن مليء بالمعاني وبمناسبات شتى من بينها: سورة الشعراء، الآيات:(91ـ102)، سورة ص، الآيات: 58ـ 61، سورة إبراهيم، الآيات: 12ـ 22، سورة غافر، الآيات: 47ـ48.
8- قيل باستحباب التلفظ بهذه الجملة عند الفراغ من سورة الفاتحة.