منهج الاعتدال
تحمل عبارات الإمام قدس سره في مجال شروط السّير والسّلوك الكثير من التشدّد، فهو يؤكّد في مناسبات عديدة على أنّ بقاء شيء من الإنيّة في باطن السّالك سيحرمه بالكامل من شرف الحضور ومن مقام القرب.
ومن عرف معنى الإنيّة يتعجّب كيف أنّ الإمام يجعل مثل هذا الذنب، الذي لا يعرف الناس عنه شيئًا، بهذا المستوى من التّأثير! وكأنّ الإمام نسي كلّ أنواع الكبائر الموبقة، ولم يعد همّه سوى هذا الأمر العميق، الذي يقول عنه من عرفه أنّه من حسنات الأبرار، وإن كان من سيّئات المقرّبين.
ويؤكّد الإمام قدس سره أيضًا على أنّه "ما لم تحصل التّقوى القلبيّة من الأمور التي ذكرناها لن تحصل التّقوى الروحيّة السرّيّة الحقيقيّة. وجميع مراتب التّقوى مقدّمة لهذه المرتبة، وهو ترك غير الحقّ. ومادام في السّالك بقيّة من الأنانية، فلن يتجلّى الحقّ على سرّه"1.
وفي الوقت نفسه، ومع كلّ هذا التشدّد، فإنّ للإمام كلمات كثيرة تبيّن مدى سعة رحمة الله تعالى ومدى سهولة الوصول إليه، فكيف نجمع ما بين الكلامين؟ وهل هناك تناقض في فكر الإمام ونهجه؟
الأمّة الوسط ومنهج الاعتدال
ينقسم الناس فيما يرتبط بالمعنويّات والعرفان الإسلاميّ إلى ثلاث طوائف أساسيّة، إفراطيّة، ومفرطة ومعتدلة.
يذكر الإمام قدس سره في معرض الحديث عن شروط السّير والسّلوك أنّ على السّالك أن يتخلّص من الأنانية بالكامل حتّى يحصل له القرب والحضور. لكنّه في الوقت نفسه يبيّن أنّ هذه الوظيفة لا تعني أنّ الله تعالى لا يمكن أن يجذب العبد إليه دفعةً واحدة.
فإذا أراد السّالك أن يصل إلى مقام القرب، وينال الجذبة الرّبوبيّة، فعليه أن يراعي تلك الشّروط الشديدة للسّير المعنويّ، ولا ينبغي أن ينسى أنّ لله تعالى جذبة تعادل عبادة الثقلين. وهي الجذبة التي يقطع السّالك بفضلها مسيرة ألف شهر في ليلةٍ واحدة.
وانطلاقًا من هذا التشدّد والتّساهل، يلفت الإمام أنظارنا إلى فائدة تعليميّة مهمّة، فيقول: "وأهل الحقيقة يلتفتون ممّا ذُكر إلى نكتة تعليميّة ومطلب مهم، والجهل به منشأ لكثير من الضّلالات والغوايات وللتخلّف عن سلوك طريق الحقّ، ولا ينبغي لطالب الحقّ الجهل به ولا يجوز له الغفلة عنه، وهو أنّ السّالك وطالب الحقّ لا بدّ أن يبرئ نفسه من الإفراط والتفريط اللذين يكونان في بعض جهلة أهل التصوّف وبعض الغافلين من أهل الظاهر حتّى يمكنه السّير إلى الله"2.
الإفراط عند بعض الصوفية
لأنّ بعضهم يعتقد كما يقول الإمام قدس سره: "أنّ العلم والعمل الظاهريين القالبيين حشو وهما للجهّال والعوام، وأنّ الذين هم أهل السرّ والحقيقة وأصحاب القلوب وأرباب السابقة الحسنى لا يحتاجون إلى هذه الأعمال! وأنّ الأعمال القالبية لأجل حصول الحقائق القلبيّة والوصول إلى المقصد. فإذا وصل السالك إلى المقصد فالاشتغال بالمقدّمات تبعيد والاشتغال بالكثرات حجاب!"3.
الإفراط في المعنويّات يؤدّي إلى التفريط بالأمور الظاهريّة. وهذه الطائفة تتظاهر بأنّ وصولها إلى أوج المعنويّات يغنيها عن الاهتمام بظواهر الأمور، وتدّعي بأنّ الأحكام الظاهريّة ليست سوى وسيلة لنيل حظوظ الباطن، فإذا تحقّقت حياة القلب ونال الباطن مبتغاه، لم يعد للوسيلة من معنى.
التفريط من أهل الظّاهر
وحول الطّائفة الثانية يقول الإمام الخميني قدس سره: "والطائفة الثانية قامت في قبال هذه الطائفة فوقعوا في جانب التفريط، وأنكروا جميع المقامات المعنوية والأسرار الإلهيّة، وما خلا محض الظاهر والصورة والقشر أنكروا كلّ شيء، ونسبوها إلى التخيّلات والأوهام...
وما يزال النزاع والمجادلة والمخاصمة بين الطائفتين، كلٌّ يرى الآخر على خلاف الشريعة"4.
ولمّا رأت جماعة من المتديّنين مدى إفراط جماعة الصوفيّة أنكروا عليهم كلّ شيء. وهذا من طغيان العداوة والشنآن، ولم يلتفتوا إلى الكثير من الحقّ في كلامهم أو فعلهم، فصار النزاع والمجادلة دينهم بدل أن يكون الحقّ مقصدهم، لهذا يقول الإمام الخميني قدس سره: "والحقّ أنّ كلتا الطّائفتين قد تجاوزت الحدّ ووقعت في الإفراط والتفريط. ونحن أشرنا في رسالة سرّ الصلاة إلى هذا الموضوع، وفي هذا المقام أيضًا نبيّن حدّ الاعتدال الذي هو الصراط المستقيم"5.
منهج الاعتدال
"فليُعلم أنّ المناسك الصورية والعبادات القالبية ليست لمجرّد تحصيل الملكات الروحانية الكاملة والحقائق القلبيّة، بل هي إحدى ثمراتها.
فعند أهل المعرفة وأصحاب القلوب تكون جميع العبادات عبارة عن إسراء المعارف الإلهيّة من الباطن إلى الظّاهر ومن السرّ إلى العلن.
وكما أنّ نعمة الرحمة الرحمانية، بل الرحيمية منبسطة على جميع النشآت الإنسانية القلبيّة والقالبية، ولكلّ من المراتب حظّ من النّعم الإلهيّة الجامعة، فلكلٍّ منها حظ ونصيب من ثناء الحقّ وشكر النعمة الرحمانية والرحيمية للواجب المطلق.
وما دام للنفس حظّ من النشأة الصورية الدنيوية، ولها من حياة المُلك نصيب، فهذا يعني أنّ بساط الكثرة لم ينطوِ بالكامل، وأنّ حظوظ الطبيعة ما زالت موجودة.
وكما أنّ قلب السّالك إلى الله ينبغي ألّا يكون مشغولًا بغير الحقّ، كذلك صدره وخياله وملك الطّبيعة فيه لا ينبغي أن ينفقه في غير الحقّ، حتّى يكون للتّوحيد والتقديس في جميع النشآت قدمٌ راسخ.
وإذا كان للجذبة الرّوحيّة في ملك الطّبيعة نتيجة غير التعبّد والتّواضع للحقّ، ففي النفس بقية من الأنانية. وسير السّالك إنّما هو في جوف بيت النّفس، وليس إلى الله"6.
إنّ همّ أهل المعرفة الذين تحقّقوا بحقائق الربوبية أن يُسرّوا هذه المعاني إلى عالم الظاهر. ولعلّ هذا هو أحد أهمّ أسباب جعل الخلافة في الأرض لمن تعلّم الأسماء كلّها. فخليفة الله هو الذي يقدر على جعل الأرض منوّرة بنور أسماء الله تعالى.
ولا يمكن لهذا الخليفة أن يحقّق هذا المقصد ما لم يكن ظاهره هو متنورًا بهذه الأسماء ومتحقّقًا بهذه الحظوظ، لهذا قال الإمام الخميني قدس سره: "وغاية سير أهل الله هي أن تكون الطّبيعة وملك البدن منصبغة بصبغة الله. ولعلّ إحدى مراتب وبواطن الحديث الشريف الذي يحكي عن لسان الحقّ تعالى شأنه، حيث يقول: "أنا الله وأنا الرحمان، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"7، هي قطع الطّبيعة التي هي أمّ الأرواح عن موطنها الأصليّ، أمّا وصلها فهو ترويضها وإرجاعها إلى موطن العبودية.
وفي الحديث عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: "استوصوا بعمّتكم النخلة خيراً، فإنّها خُلقت من طينة آدم"8، وهذا الحديث يشير إلى الرحميّة التي ذكرناها"9.
فعالم الطبيعة الذي يتجلّى في الإنسان بظاهره وفي ملك البدن، هو من مراتب الوجود الإلهيّ الذي ينبغي أن يكون خاضعًا لله. ولو أنّ العبد رضي بأن تكون هذه المملكة خاضعة لغير الله تعالى، ففي قلبه شائبة من عصيان الله، ويعني ذلك أنّ قلبه ليس فانيًا في الله ولا منصبغًا بصبغة الله كما ادّعى.
خطورة إنكار الظاهر
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة، إخراج مملكة الظاهر من موطن العبودية، وإرسالها على رسلها من غاية الجهل بمقامات أهل المعرفة ومن تسويلات الشيطان الرجيم، فإنّه يصدّ كلّ طائفة عن الحقّ تعالى بطريقٍ خاص"10.
ويقول قدس سره في معرض التنبيه إلى خطورة إنكار ظواهر الشريعة: "والعارف بالله والعالم بالمقامات لا بدّ له أن يراعي جميع الحقوق الباطنية والظاهرية ويوصل إلى كلّ صاحب حقّ حقّه ويطهّر نفسه من الغلوّ والتقصير والإفراط والتفريط، ويزيل عن نفسه قذارة إنكار صورة الشريعة الذي هو في الحقيقة تحديد، ويزيل عن نفسه خباثة إنكار باطن الشريعة الذي هو تقييد. وكلاهما من الوساوس الشيطانية، ومن خبائث ذلك اللعين، حتى يتيسّر له طريق السير إلى الله والوصول إلى المقامات المعنوية"11.
خطورة إنكار المقامات
"كما إنّ إنكار المقامات وسدّ طريق المعارف التي هي قرّة عين أولياء الله عليهم السلام وتحديد الشرائع الإلهيّة بالظاهر الذي هو حظّ الدنيا وملك النفس ومقام حيوانيّتها والغفلة عن الأسرار والآداب الباطنية للعبادات التي توجب تطهير السرّ وتعمير القلب وارتقاء الباطن، كلّ هذا هو من غاية الجهالة والغفلة...
وكلٌّ من هاتين الطائفتين بعيدٌ عن طريق السعادة والصراط المستقيم للإنسانية، ومطرودٌ من مقامات أهل المعارف"12.
تطهير القلب من الأوهام
لهذا، يجب أن يطهّر السّالك قلبه من تلك الأوهام، كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "فإزالة أخباث الأوهام الفاسدة المانعة من القرب إلى الله ومن معراج المؤمنين هي إحدى مراتب إزالة الخبث. وإنّ من معاني جامعية النبوّة الخاتمية ومقاماتها، بل من دلائل الخاتمية أنّه في جميع المقامات النفسية قد أعطى جميع حقوقها وحظوظها من جميع شؤون الشريعة. وكما إنّه في معرفة شؤون الربوبيّة جلّت عظمته عُرّف الحقّ سبحانه في العلوّ الأعلى والدنوّ الأدنى بمقام الجامعيّة، وقال: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾13، و ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾14 إلى آخره، "ولو دليتم بحبل من الأرضين السفلى لهبطتم على الله"15، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾16، إلى غير ذلك ممّا قاله ويحصل به للعارف بالمعارف الإلهيّة والمجذوب بالجذبات الرحمانية طرب ملكوتي ووجد لاهوتي.
كذلك فقد أسرى التوحيد العمليّ القلبيّ إلى آخر مراتب أفق الطّبيعة وملك البدن، ولم يحرم موجودًا من حظّ معرفة الله"17.
فرعاية أحكام الظاهر وسيلة الوصول إلى مقام الباطن، ومن نال حظوظ الباطن لا شك بأنّه سيراعي شؤون الظّاهر، لأنّ حياة الباطن ستتجلّى في كلّ نشآته.
ومن عرف حقيقة النفس ومراتبها، وعلاقة كلّ مرتبة بما دونها لا يمكن أن يفصل بين النشآت.
اختتام ودعاء18
كان من المناسب أن نتمّم هذه الرسالة بذكر الموانع المعنويّة للصلاة من قبيل الرياء والعجب وأمثالهما، ولكن بما أنّا ذكرنا في كتاب الأربعين في شرح بعض الأحاديث شرحًا لهذه الموضوعات.
والآن، بسب كثرة الاشتغال وتشتّت القوى الفكرية أعتذر عن هذه الخدمة، فلذا أختم هذه الأوراق مع الاعتراف بالنقص والتقصير وأطلب من أهل النظر الطّاهر العفو عن الخطأ، وأنا المحتاج إلى دعاء الخير منهم والنفس الكريم لهم.
إلهنا، أنت الذي ألبستنا نحن العبيد الضعفاء لباس الوجود بالتفضل والعناية ومحض الرحمة والكرامة من دون أن سبق خدمة وطاعة منا أو حاجة منك إلى عبوديتنا وعبادتنا، وشرّفتنا بأنواع النعم الروحانية والجسمانية وأصناف الرحمات الباطنية والظاهرية من دون أن يتطرّق من عدمنا خلل في قدرتك وقوّتك أو أن يزيد بوجودنا شيء على عظمتك وحشمتك. فالآن، وقد فار منبع رحمانيتك وتشعشعت عين شمس جمالك الجميل وأغرقتنا في بحار رحمتك ونوّرتنا بأنوار الجمال، فاجبر أيضًا نقائصنا وخطيئاتنا وذنوبنا وتقصيراتنا بنور التوفيق الباطني، والمساعدة والهداية السرية وأخلص قلوبنا التي كلّها تعلّق من التعلّقات الدنيوية، وزيّنها بالتعلّق بعزّ القدس.
إلهنا، إنّه لا يحصل من طاعتنا نحن الأقلّين بسط في مملكتك، ولا يعود إليك نفع من عذاب المذنبين وإيلامهم، ولا يحصل من العفو والرحمة للساقطين نقصان في قدرتك، فالعين الثابتة للخاطئين طالبة للرحمة وفطرة الناقصين طالبة لتماميتهم، فعاملنا باللطف العميم، ولا تنظر إلى سوء استعدادنا...
"إلهي، إن كنت غير مستأهل لرحمتك، فأنت أهل أن تجود علي بفضل سعتك... إلهي، قد سترت عليّ ذنوبًا في الدنيا، وأنا أحوج إلى سترها عليّ منك في الآخرة... إلهي، هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة"19.
* من كتاب الآداب المعنوية للصلاة في ضوء فكر الإمام الخميني(قده).
1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 87.
2- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 87 - 88.
3- م.ن، ص 88.
4- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 88.
5- م.ن.
6- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 88 - 89.
7- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص 212.
8- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج25، ص 145.
9- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 89.
10- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 89.
11- م.ن، ص 90.
12- م.ن، ص 89 - 90.
13- سورة الحديد، الآية 3.
14- سورة النور، الآية 35.
15- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج55، ص 107.
16- سورة البقرة، الآية 115.
17- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 90.
18- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 379 - 380.
19- ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال، ج2، ص 686 - 687.