أسرار السجود وآدابه
تمهيد
إنّ أرفع صفة للإنسان هي الصّفة الحاصلة من مقارنته مع الكمال الحقيقيّ. ولأنّ الكمال الحقيقيّ ليس سوى الله، فإنّ حصيلة المقارنة بين العبد والحقّ عزّ وجلّ ليست سوى العبودية، ولهذا كانت العبوديّة أجمل ما يتّصف به الإنسان.
وإنّ أجمل وأصدق تعبير عن العبوديّة بين يدي الله تعالى هو السّجود له.
فماذا يحمل السجود من معانٍ للعبودية ممّا لا يحمله الركوع أو أيّ فعل آخر؟
وكيف يمكن لسجودنا أن يصبح سجودًا حقيقيًّا، نعرج به إلى مراتب القرب؟
أسرار السّجود
يقول الإمام الخميني قدس سره: "والسّجود عند أصحاب العرفان وأرباب القلوب هو:
1- ترك النفس وغمض العين عمّا سوى الحق.
2- والتّحقّق بالمعراج اليونسيّ الذي حصل بالغوص في بطن الحوت بالتوجّه إلى أصله بلا رؤية الحجاب،
3- وفي وضع الرأس على التّراب إشارة إلى رؤية جمال الجميل في باطن قلب التراب وأصل عالم الطبيعة"1.
لأنّ رؤية النّفس أصل جميع الحجب. والمراد برؤية النفس كما مرّ كرارًا هو رؤية الاستقلال لها في الوجود. وهو الذنب الأعظم الذي لا يضاهيه ذنب، لأنّ رؤية الصفات المستقلّة والأفعال المنفصلة ترجع جميعًا إلى تلك الرؤية، ولأنّ كلّ المعاصي ترجع إلى رؤية الاستقلال في الفعل.
ولعلّ بطن الحوت إشارة إلى الاحتجاب الأكبر والسير فيه خروج من هذا الاحتجاب وطلب القرب والوصال بتبديل الكثرات وإرجاعها إلى أصلها وهو التّوحيد. فهذا يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، لم يمنعه ما كان عليه من أن يسبّح الله تعالى وينفي عنه كلّ أنواع الأوهام والعيوب والقبائح والنقائص التي هي سمات الغيريّة، فعرج بذلك إلى أعلى مقامات القرب.
ومع من أنّ التراب هو التعبير عن أدنى مراتب الطبيعة التي هي أخسّ مراتب الوجود، فإنّ على العبد في سجوده أن لا ينسى ذكر ربّه الأعلى، فيسبح بذلك نحو عوالم القرب والوصال.
آداب السجود
يقول الإمام الخميني قدس سره: "والآداب القلبيّة للسجود هي:
1- عرفان حقيقة النفس وأصل جذر وجوده.
2- ووضع أمّ الدماغ وهي مركز سلطان النفس وعرش الرّوح على أدنى عتبة مقام القدس.
3- ورؤية عالم التراب عتبة لمالك الملوك"2.
ليس الأدب في معناه سوى استحضار الحقيقة في مورده. وفي مورد السّجود فإنّ أعظم الحقائق التي ينبغي استحضارها هي عرفان حقيقة النفس بأنّها عين الفقر والضّعف والمسكنة والاحتياج، وأنّ أصل وجودها وسرّ بقائها هو قيامها بالله. وكي لا يبقى في النفس شائبة من الباطل والتوهّم، يمرّغ أعلى وأعزّ ما في الإنسان على أدنى ما في الطبيعة وهو التراب، لهذا يقول الإمام الخميني قدس سره: "فسرّ الوضع السجوديّ غمض العين عن النفس، وأدب وضع الرأس على التراب إسقاط أعلى مقامات نفسه من العين ورؤيتها أقلّ من التراب"3.
آداب السجود عند الإمام الصادق عليه السلام
يذكر الإمام الخميني قدس سره حديثًا عن الإمام الصادق في مصباح الشريعة، حيث يقول عليه السلام: "ما خسر والله من أتى بحقيقة السّجود، ولو كان في العمر مرّة واحدة.
وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال تشبيهًا بمخادع نفسه غافلًا لاهيًا عمّا أعدّه الله للسّاجدين من أنس العاجل وراحة الآجل.
ولا بعُد عن الله أبدًا من أحسن تقرّبه في السجود.
ولا قرُب إليه أبدًا من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعلّق قلبه بسواه في حال سجوده.
فاسجد سجود متواضعٍ لله تعالى ذليل، علم أنّه خُلق من تراب يطؤه الخلق، وأنّه اتّخذك (ركب) من نطفة يستقذرها كلّ أحد، وكُوّن ولم يكن.
وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسرّ والرّوح فمن قرُب منه بعُد من غيره، ألا ترى في الظاهر أنّه لا يستوي حال السّجود إلّا بالتواري عن جميع الأشياء والاحتجاب عن كلّ ما تراه العيون، كذلك أمر الباطن فمن كان قلبه متعلّقًا في صلاته بشيء دون الله تعالى فهو قريب من ذلك الشيء بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته، قال عزّ وجلّ: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾4.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: "لا أطّلع على قلب عبدٍ فأعلم فيه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلّا تولّيت تقويمه وسياسته، ومن اشتغل بغيري فهو من المستهزئين بنفسه ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين"5"6.
ثمّ يقول قدس سره: "ففي هذا الحديث الشّريف قد جمع عليه السلام بين الأسرار والآداب، والتفكّر فيه يفتح للسالك إلى الله طرقًا من المعرفة ويقصم إباء المنكرين وجحودهم ويؤيّد ويشيد أولياء العرفان وأصحاب الإيقان ويقرع السّمع بحقيقة الأنس والخلوة مع الحقّ وترك غير الحقّ"7.
بعض أسرار الاسم العليّ
يقول الإمام الخميني قدس سره: "في الحديث أنّه لما نزلت ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾8" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، فلمّا نزلت: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾9، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجعلوها في سجودكم"10.
وفي الحديث الشريف في الكافي: "فأوّل ما اختار لنفسه العلّي العظيم" الحديث. ولعلّ العلّي هو الأوّل من الأسماء الذاتية، والعظيم الأوّل في الأسماء الصفاتية"12.
معاني سجود المتوسّطين
يختلف سجود كلّ إنسان بحسب عرفانه وتوجّهه، ولهذا كان السجود على مراتب بحسب مراتب السّالكين. ولا شكّ بأنّ سجود الكاملين هو الأعلى، وهو السّجود الذي ينبغي أن نجعله هدف سيرنا السجوديّ، وحيث إنّ معرفة أسرار سجود هؤلاء الكمّل مقرونٌ بإدراك عرفانهم، وهو أمر غير متيسّر لنا، يكتفى بذكر بعض أسرار سجود المتوسّطين، عسى أن يكون هذا الذكر محفّزًا لنكون من أهل البدايات ببركة الشّوق إليهم، فنُحشر في النهاية مع الكاملين بفضل خدمتنا لهم.
يقول الإمام الخميني قدس سره:
"واعلم أنّ في السّجود كسائر الأوضاع الصلاتيّة هيئة وحالة وذكرًا وسرًّا.
وهذه الأمور للكمّل على نحو قد بُيّنت في هذه الرّسالة إشارةً، وأمّا بيانها تفصيلًا فغير مناسب.
وأمّا للمتوسّطين فهيئته:
1- إراءة المتربة.
2- وترك الاستكبار والعجب.
3- وإرغام الأنف (الذي هو من المستحبّات المؤكّدة، بل تركه خلاف الاحتياط)، إظهارًا لكمال التخضّع والتذلّل والتّواضع، وأيضًا هو التوجّه إلى أصله والتذكّر لنشأته"13.
فالمتوسّطون هم الذين عبروا مرتبة تهذيب الأخلاق وصارت عبادتهم تعبيرًا عن صفاء نفوسهم، ثمّ يقول الإمام قدس سره: "ووُضع رؤساء الأعضاء الظّاهرة ـ التي هي محال الإدراك وظهور التّحريك والقدرة، (وهي الأعضاء السبعة أو الثمانية) ـ على أرض الذلّة والمسكنة علامة:
1- التسليم التام.
2- وتقديم جميع قواه.
3- والخروج من الخطيئة الآدمية"14.
فإذا كان الإنسان عندما يريد أن يعتزّ بنفسه يشمخ بأنفه أو يرفع جبينه، ويحرّك يده عندما يريد أن يعبّر عن مؤثّريته، ويتقدّم برجله لأجل التذكير باقتداره، فإنّ عباد الله الصالحين يضعون كلّ هذه الأعضاء على أرض المذلّة تعبيرًا عن ضعفهم ولا حولهم ولا قوّتهم.
إنّ عالم الطّبيعة هو وسيلة لشهود عالم الملكوت، وليس عالم الملكوت سوى محلّ شهود عظمة الله تعالى. فمن نظر إلى الطّبيعة أو الناسوت على أنّه غاية وقع في هذه الخطيئة وهوى. وفي السجود إغماض عنها وغضّ البصر عن النظر إليها، يقول الإمام الخميني قدس سره: "فإذا قوي تذكّر هذه المعاني في القلب ينفعل القلب بها تدريجيًّا، وتحصل له حالة الفرار من النفس وترك رؤية النفس، ونتيجة هذه الحالة حصول حالة الأنس، وتعقبها الخلوة التامّة وانبعاث المحبّة الكلّيّة.
وأمّا ذكر السّجدة فمتقوّم بالتسبيح، وهو:
التنزيه عن التوصيف وعن القيام بالأمر،
أو التنزيه عن التكثير الأسمائي،
أو التنزيه عن التوحيد، لأنّ التوحيد تفعيل وهو الذّهاب من الكثرة إلى الوحدة، وهذا لا يخلو من شائبة التكثير والتشريك، كما أنّ التوصيف بالعلوّ الذاتيّ والتّحميد أيضًا لا يخلو من شائبة هذه المعاني.
والعلّي من الأسماء الذاتيّة وبحسب رواية الكافي هو أوّل اسم اتّخذه الله لنفسه، أي هو أوّل تجلٍّ للذّات، والعبد السالك إذا فني عن نفسه في هذا المقام وترك العالم وما فيه فينال فخر هذا التجلّي الذاتيّ"15.
سجود الأولياء
كلّ فعل عباديّ عند أولياء الله هو تعبيرٌ صادق عمّا في قلوبهم، وكلّ ما في قلوب الأولياء هو انفعالٌ صادق مقابل تجلّيات الله تعالى، وكلّ تجلّيات الله على قلوب الأولياء هي تجلّيات إطلاقيّة ليس لها حدّ، وذلك لسعة قلوبهم، وكلّ تجلٍّ إطلاقيّ لا يمكن أن تطيقه القلوب مهما اتّسعت، لأنّ نور عظمة الله تعالى فوق أي حدّ، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقً﴾16.
من أولياء الله نتعلّم العبادة وندرك حقائقها عسى أن نصل إليها يومًا، وهذه الحقائق هي التي تمثّل لنا بوصلة الطّريق ترشدنا إلى الصّلاة المعنويّة. ولولاهم لما كان لنا من العبادة حظّ أو نصيب سوى التّعب والملالة والجهد والعناء.
يحدّثنا الإمام الخميني قدس سره بعباراتٍ وجيزة عن عروج الكاملين في صلاتهم، وكيف يعبرون مراتب الوصال، فيقول: "سجدة الغشي والصعق كما في حديث المعراج هي نتيجة مشاهدة أنوار عظمة الحقّ. فإذا صار العبد مغشيًّا عن نفسه وحصلت له حالة المحو والصعق فتشمله العناية الأزلية ويُلهم بالإلهام الغيبيّ.
وذكر السجود وتكراره لأجل حصول حالة الصحو والإفاقة.
فإذا أفاق تشتعل في قلبه نار الشوق لمشاهدة نور الحقّ ويرفع الرأس عن السجدة.
فإذا رأى في نفسه بقايا من الأنانية فيشير باليد إلى رفضها، فيتجلّى له نور العظمة ثانيًا ويحرق بقية الأنانية ويفنى من الفناء، وتحصل له حالة المحو الكلّيّ المطلق والصّعق التام الحقيقيّ وهو يكبّر.
فالمساعدة الغيبية بإلهام الأذكار تمكّنه في المقام وتعرض له حالة الصّحو في هذا المقام، وهو صحو مقام الولاية، وهو مقام منزّه عن كلّ احتجاب وشائبةٍ خُلقية.
وتحصل بعدها حالة التشهّد والسلام، وهما من أحكام الكثرة. وعند الوصول إلى هنا تتمّ دائرة السّير الإنساني وتكتمل"17.
فأوّل ما يحصل للأولياء هو تجلّي عظمة الحقّ تعالى على قلوبهم لما فيها من صفاء واستعداد منذ البداية، ولأنّهم لم يتلوّثوا بما يحجبهم عن ربّهم من بداية حياتهم. فالبداية عندهم قد تكون نهاية بالنسبة لغيرهم، ولهذا استحقّوا مقام الهداية.
ويحصل من جرّاء هذا التجلّي ما يشبه الغشي والصعق لقوّة جلال عظمة الجمال. وليس هذا الصعق سوى إزالة كل ما يمكن أن يحجب وهو الأنا، وبعدها يبدأ الإلهام والتعليم الإلهيّ.
أمّا تكرار السّجود فلأنّ الفناء فناءان، الأوّل فناء عن النفس التي هي رمز الغيريّة ورؤية الاستقلال لغير الله تعالى. والفناء الثاني هو فناء عن الفناء، لأنّ في الفناء الأوّل شائبة أنا الفاني. وبعد كلّ فناء أو محو يوجد صحو. والتكبير بعد السجود إعانة على رفض بقايا الأنا. ومع كلّ رفض وفناء استعداد أكبر لاستقبال التجلّيات الإلهيّة. وفي التجلّيات ذكر للحقّ تعالى بحسب مراتب التوحيد.
وهناك يُنال مقام الولاية الذي هو القرب المطلق، وهو عبارة عن قرب الفرائض، الذي يكون العبد فيه مظهر إنّ لله عبادًا إذا أرادوا أراد.
الفرق بين تسبيح الرّبّ في الركوع والسجود
فليُعلم أنّ كلمة سبحان لا يمكن أن تختلف من حيث اللفظ في أيّ مقام من المقامات، وكذلك معناها اللغويّ، بل والاصطلاحي أيضًا. أمّا الاختلاف الذي يتحدّث عنه العارفون فهو في تجلّي حقيقة الرّبوبيّة على قلوبهم بحسب اختلاف أحوالهم القلبيّة وتوجّهاتهم السرّيّة...
حتّى إذا قاموا بحقّ الرّكوع الذي هو أفضل تعبير عن التوحيد الصفاتيّ، وأن لا كمال أو كامل في الوجود إلّا الله تعالى، شهدوا حقيقة التربية الإلهيّة في الصفات.
وحيث إنّ السّجود هو التّعبير عن الفناء المطلق الذي يعقبه شهود توحيد الذّات، وأنّه لا موجود إلا الله، وأنّ كلّ موجود إنّما يكون وجوده شعاع وجود الله، فإنّ معنى ربّي في حال السّجود هو تجلّي التوحيد الذاتي للحقّ المتعال.
يقول الإمام الخميني قدس سره:
"واعلم أنّ الركوع حيث إنّه أوّل والسّجود ثانٍ، فيفترق التسبيح والتحميد فيهما بفروق.
وأيضًا يفرق الرّبّ في المقامين، لأنّ الرّبّ كما قال أهل المعرفة من الأسماء الذاتية والصّفاتيّة والأفعاليّة بالاعتبارات الثلاثة.
فبناءً على ذلك فالربّ في الحمد لله ربّ العالمين لعلّه من الأسماء الفعليّة بمناسبة مقام القيام وهو مقام التّوحيد الأفعاليّ وفي الرّكوع من الأسماء الصّفاتية بمناسبة أنّ الركوع مقام توحيد الصفات وفي السجود من الأسماء الذاتية، من حيث إنّ السجود مقام توحيد الذات. والتسبيح والتحميد الواقعان في كلّ مقام يرتبطان بذلك المقام"18.
العلاقة بين التوحيد وأفعال الصلاة الثلاث
ثمّ يأتي دور الركوع، وأظهر ما فيه هو هذا الانحناء الذي اعتنى الدين بوضعه أشدّ الاهتمام، وهنا يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ عمدة أحوال الصلاة ثلاثة، وسائر الأعمال والأفعال مقدّماتها ومعدّات لها، الحال الأول: القيام، والثاني: الركوع، والثالث: السجود.
وأهل المعرفة يرَون هذه الأحوال الثلاثة إشارة إلى التوحيدات الثلاثة. ونحن قد ذكرنا تلك المقامات في كتاب سر الصّلاة على حسب الذوق العرفانيّ، والآن نبيّن هذه المنازل بلسان آخر يناسب العامّة، فنقول:
بما أنّ الصّلاة معراج كمالي للمؤمن ومقرّب لأهل التقوى فهي متقوّمة بأمرين، أحدهما مقدّمة للآخر:
الأوّل: ترك رؤية النفس وإرادتها الذي هو باطن التّقوى.
الثاني: إرادة الله وطلب الحقّ، وهو حقيقة المعراج والقرب.
ولهذا ورد في الرّوايات الشّريفة: "الصّلاة قربان كلّ تقيّ"19، كما أنّ القرآن أيضًا نور الهداية، ولكن للمتقّين: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾20"21.
ليس التوحيد سوى تعبير دقيق عن معرفة الله حقًا. فكلّ ما نعرفه عن الله تعالى إذا لم يكن متّصفًا بالتوحيد فليس سوى الجهل، لأنّ العلم والقدرة والحياة وكلّ الصّفات الكماليّة لا تكون صفات إلهيّة إلّا إذا كانت منحصرة بالله تعالى. كما إنّ تحديد الفعل الإلهيّ بأفعال العباد، ليس سوى تضييق لقدرته وتضييع لحكمته، ولهذا يستلزم التوحيد الذاتيّ توحيد الصّفات وتوحيد الأفعال.
فإذا كانت الغاية من العبادة هي المعرفة كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾22، حيث قال عليه السلام: "أي ليعرفون"23، فإنّ هذه المعرفة لا تتمّ إلّا في ظلّ عبور التوحيدات الثلاثة. فكيف تحصل هذه المعرفة من خلال العبادة؟ وما هي علاقة العبادة بهذه التوحيدات؟
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة هذان المقامان، يحصلان في هذه المقامات التوحيدية الثلاثة بالتدريج، ففي حال القيام ترك لرؤية النفس بحسب مقام الفاعلية ورؤية فاعلية الحق وقيّومية الحق المطلق، وفي الركوع ترك لرؤية النفس بحسب مقام الصفات والأسماء ورؤية مقام أسماء الحق وصفاته، وفي السجود ترك رؤية النفس مطلقا، وحب الله وطلبه مطلقاً.
وجميع منازل السالكين من شؤون هذه المقامات الثلاثة كما هو واضح لأصحاب البصيرة ولأهل العرفان والسلوك"24.
فالتقوى التي تعني ضبط قوى النفس هي وسيلة لشهود فقرها وعجزها. وفي ظل شهود العجز المطلق يدرك المصلي حقيقة الغنى المطلق للحق المتعال.
وليست التقوى في حقيقة أمرها سوى فرصة لمنع قوى النفس الظاهرة والباطنة من التشتت فيتشتت معها أمر الإنسان وتغيب عنه الحقيقة.
ضرورة المراقبة الشديدة
وقد علمت أنّ أوضاع الصّلاة تعبّر عن حقائق عظيمة. فإذا لم يكن المصلّي من أهل هذه الحقائق، يكون قد ادّعى أمرًا عظيمًا وعليه أن ينجي نفسه من هذا الخطر برعاية ما يذكره الإمام قدس سره: "فإذا توجّه السالك في هذه المقامات إلى أنّ سرّ هذه الأعمال هو التوحيدات الثلاثة، صارت مراقبته أكثر ضرورة لكلّ مقام كلّما ازداد دقّة ولطفًا. لأنّ خطر المقام أشدّ والزّلل فيه أكثر.
ففي مقام الرّكوع حيث أنّ للسّالك دعوى أنّه ليس في دار الوجود علم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة إلا من الحقّ تعالى، وهذا الادّعاء عظيم والمقام دقيق للغاية ولا ينبغي صدور هذه الدعاوى من أمثالنا، فلا بدّ أن نتوجّه بباطن ذاتنا إلى جناب الحقّ المقدّس بالتضرّع والمسكنة والذلّة ونعتذر عن القصور والتقصير ونجد نقصاننا بعين العيان وشهود الوجدان، فلعلّه يصدر عن هذا المقام المقدّس توجّه وعناية ويصير حال الاضطرار سببًا للإجابة من الذّات المقدّسة: أمّن يجيب المضّطر إذا دعاه ويكشف السوء"25.
ويقول قدس سره في مقام التنبيه والتعظيم:
"قد ورد في صلاة المعراج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الركوع أنّ العزيز خاطبه "فانظر إلى عرشي". قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فنظرت إلى عظمةٍ ذهبت لها نفسي وغشي عليّ فأُلهمت أنّ قلت سبحان ربّي العظيم وبحمده لعظم ما رأيت. فلمّا قلت ذلك تجلّى الغشي عني حتى قلتها سبعا أُلهم ذلك فرجعت إليّ نفسي كما كانت"26: فانظر أيها العزيز إلى مقام عظمة سلوك سيد الكلّ وهادي السبل صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى في حال الركوع ـ وهو حال النظر إلى ما دون نفسه ـ نور العرش، وحيث أنّ نور العرش في نظر الأولياء عبارة عن تجلّي الذات بلا مرآة، فالتعيّن النفسيّ يزول وتحصل حالة الغشي والصعق.
فأدركت الذاتُ المقدّسة بالعنايات الأزلية وجودَه الشريف ولقّن سبحانه الذات النبوية المقدّسة التسبيح والتعظيم والتحميد بالإلهام الحبّي حتى أفاق بعدما قالها سبعًا ـ بعدد الحجب وعدد مراتب الإنسان ـ وحصلت له حالة الصحو.
وهذه الأحوال كانت تداومه في صلاة المعراج كلّها.
وحيث أنّه لا سبيل لنا إلى خلوة الأنس ولا مكان لنا في مقام القدّس، فالجدير أن نجعل رأسمالنا للوصول إلى المقصد وعروتنا لحصول المطلوب عجزنا وذلّتنا ولا ندع التمسّك بذيل المقصود حتّى يرتوي القلب.
وإذا لم نكن من رجال هذا الميدان فعلى الأقل نطلب الهداية من أهله ونستعين بروحانية الكمّل، فلعلّ رائحة من المعارف تصل إلى مشامّنا ويهبّ نسيم لطف على قالبنا الميّت وذلك لأنّ عادة الحقّ تعالى الإحسان وشيمته التفضّل والإنعام"27.
التحذير من خطر الادّعاء
يحذّر الإمام قدس سره من مخاطر الوقوف في المقامات العظيمة دون أن يكون في القلب حقيقة منها، فيقول: "وإذا كان في القلب شائبة في هذه الدعاوى التي تكون الأوضاع الصلاتية إشارة إليها فهو نفاق عند أرباب المعرفة.
وحيث إنّ خطر هذا المقام أعظم الأخطار، فيلزم للسالك إلى الله أن يتمسّك بذيل عناية الحقّ جلّ وعلا بجبلّته الذاتيّة وفطرته القلبيّة ويسأله العفو عن التّقصيرات بالذلّة والمسكنة، لأنّ هذا المقام مقامٌ خطير خارج عن عهدة أمثالنا.
وحيث ذكرنا هذه المقامات في رسالة سرّ الصّلاة بالتّفصيل فنكفّ عنه هنا، ونكتفي في آدابه بالرواية الشريفة من مصباح الشريعة"28.
* من كتاب الآداب المعنوية للصلاة في ضوء فكر الإمام الخميني(قده).
1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 354.
2- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 354.
3- م.ن.
4- سورة الأحزاب، الآية4.
5- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص 482 - 483.
6- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 355.
7- م.ن، ص 355 - 356.
8- سورة الواقعة، الآية 74.
9- سورة الأعلى، الآية 1.
10- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص 328.
11- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 113.
12- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 356.
13- م.ن، ص 356.
14- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 356.
15- م.ن، ص 356 - 357.
16- سورة الأعراف، الآية 143.
17- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 357 - 358.
18- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 357.
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج3, ص265.
20- سورة البقرة، الآية 2.
21- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 347.
22- سورة الذاريات، الآية 56.
23- الشيرازي، صدر الدين، شرح أصول الكافي، طهران، مؤسسة الأبحاث الثقافية، 1425 هـ، ط1, ج1,ص182.
24- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 347 - 348.
25- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 348.
26- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج5، ص 467.
27- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 348 - 349.
28- م.ن، ص 354.