التفهيم
تمهيد
إنّ تفاعل الإنسان مع الحقائق لا يحصل بمجرّد اطّلاعه عليها أو إدراكه لها، لأنّ العلم والإدراك قد يواجها نفسًا مشغولة بأمور الدنيا وقلبًا مقبلاً على متاعها. وإذا كان القلب وعاء الفيض الإلهيّ، فإنّه يستلزم أن يتوجّه إلى هذا الفيض بكلّ ما يحمله من كمالات ومعانٍ لكي يناله. وكما أنّه لا يمكن تعبئة الوعاء إلّا بتوجيهه إلى المصدر، فكذلك القلوب.
ولكي تُقْبِل القلوب على الحقائق العظيمة للوجود وتتوجّه إليها وتتفاعل معها لا بدّ من أن تذوق منها شيئًا. وما لم تذق ذائقة قلوبنا طعم المعاني الروحيّة فإنّها ستكتفي بما ذاقته من حلاوة هذه الدنيا الزائلة الفانية.
وإنّ أفضل طريق لتحقيق هذه التجربة المعنويّة هو ما يُعبَّر عنه بالتفهيم، وهو أشبه بعملية إيصال المعاني إلى القلب بواسطة التلقين.
ما هو التفهيم؟
التفهيم1 عمليّة يقوم بها السالك من أجل تثبيت الحقائق في القلب، حيث يشرحه الإمام الخمينيّ قدس سره قائلًا: "ومن الآداب القلبيّة للعبادات ـ وخصوصاً العبادات الذكريّة ـ التفهيم، وكيفيّته: أن يعتبر الإنسان قلبه في أوّل الأمر كطفلٍ ما انفتح لسانه، وهو يريد أن يعلّمه كلاًّ من الأذكار والأوراد والحقائق وأسرار العبادات بكمال الدقّة والعناية، ويفهّمه الحقيقة التي أدركها في أيّ مرتبة كان فيها"2.
فالتفهيم أو التلقين إذًا، هو عبارة عن نقل المعاني إلى القلب، سواء حصلت هذه المعاني عن طريق البرهان أو بمجرّد التعبّد. فعندما تحصل القناعة الفكريّة بأيّ مبدإٍ أو حقيقة، لا يمكن للإنسان أن يستفيد منها أو أن يعمل بمقتضاها ما دام القلب غافلًا عنها أو غير مقتنع بها. ولأنّ القلب أمير البدن وسلطانه، فإنّ الجوارح لن تعمل بمقتضى الحقائق ما دامت صفحة القلب خالية منها.
أهمّيّة التفهيم
التفهيم هو الباب الأوّل لتحصيل حالات القلب، ولهذا عدّه الإمام وسيلة أساسيّة للذّكر ولكلّ التوجّهات القلبيّة، يقول الإمام الخميني قدس سره: "وسيأتي في أحاديث حضور القلب أنّه يُقْبَل من الصّلاة بقدر ما أقبل بقلبه. وكّلما كان القلب غافلًا يقلّ نصيبه من نتائج الصّلاة وثمارها بمقدار الغفلة، وما لم يلاحظ الأدب المذكور لا يحصل الذّكر القلبيّ، ولا يخرج القلب من السّهو والغفلة.
وفي الحديث أنّ الإمام الصادق عليه السلام، قال: "فاجعل قلبك قبلةً للسانك، لا تحرّكه إلّا بإشارة القلب"3. ولا يتحقّق كون القلب قبلة، وتبعيّة اللسان وسائر الأعضاء له، إلا بملاحظة هذا الأدب. وإن اتّفق في مورد ما حصول الأمور المذكورة بدون هذا الأدب فهو من النوادر، ولا يجوز للإنسان أن يغترّ به"4.
فما لم يعامل أصحاب القلوب قلوبهم وفق هذا الأدب توشك هذه التّوفيقات أن تخرج من القلب عند أدنى زلزلة.
التكرار طريق تحصيل التفهيم
يكون السالك في تفهيم القلب كمن يلقّنه معنًى. وهو يتعامل معه على أساس أنّه طفلٌ صغير لم يَعْتَدْ على تلك المعاني ولم يأنس بها بعد، ولأجل ذلك كان لا بدّ من التفهيم بعد التلقين حتى يحصل للقلب فهمٌ وإدراك. فَمِنَ السالك التفهيم، وَمِنَ القلب الفهم والاستيعاب. وهذا معنًى آخر لتكرار توجّه القلب لو دقّقنا، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وليُعلم أنّ من نكات تكرار الأذكار والأدعية ودوام الذكر والعبادة أن ينفتح لسان القلب، فيكون ذاكرًا وداعيًا وعابدًا. وما دام هذا الأدب المذكور غير ملحوظ لا ينفتح لسان القلب. وقد أشير إلى هذا المعنى في الأحاديث الشريفة، كما في الكافي الشريف، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ عليّاً عليه السلام قال في ضمن بيان بعض آداب القراءة: "ولكن اقرعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة"5، وفيه أيضًا أنّ أبا عبد الله الصادق عليه السلام قال لأبي أسامة: "يا أبا أسامة، اوعوا قلوبكم بذكر الله، واحذروا النكت"6.7
"وحتى الكمّل من أولياء الله، كانوا يلاحظون هذا الأدب أيضًا، كما في الحديث أنّ مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان في صلاته، فغُشي عليه، فلمّا أفاق سُئل عن سببه، فقال: "ما زلت أردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته"8.
وروي عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - أنّه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلةً، يردّد قوله تعالى: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾9"10.
وبالجملة، فحقيقة الذكر والتذكّر هي الذكر القلبيّ. أمّا الذكر اللساني بدونه فهو بلا لبّ وساقط عن درجة الاعتبار تمامًا. كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الشريفة في غير مرّة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأبي ذرّ: "يا أبا ذرّ، ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خير من قيام ليلة والقلب لاه (ساه)"11.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "إنّ الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم، بل ينظر إلى قلوبكم"12.13
مراتب التفهيم بحسب درجات المعرفة
إنّ التفهيم تابعٌ لدرجة المعرفة تصوّرًا وتصديقًا، وقوّة الفهم تتبّع مستوى القناعة التي تحصل في النفس.
بعض الناس ليس لهم من العلوم والمعارف سوى المجمل العام. وبعضهم يكتفي بالظواهر، والقليل من له نصيب من المكاشفات. ومع ذلك فإنّ لكلٍّ من هؤلاء نصيب من التفهيم، لهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فإذا لم يكن من أهل فهم معاني القرآن والأذكار، وليس له نصيب من أسرار العبادات، فيفهّم القلب المعنى الإجماليّ، وهو أنّ القرآن كلام الله والأذكار مذكِّرات بالحقّ تعالى والعبادات إطاعة لأمر الربّ، ويفهم القلب هذه المعاني الإجماليّة.
وإن كان أهل فهم المعاني الصوريّة للقرآن والأذكار، فيفهّم القلب المعاني الصوريّة من الوعد والوعيد والأمر والنهي وعلم المبدأ والمعاد بالمقدار الذي أدركه. وإن كشفت له حقيقة من حقائق المعارف، أو كشف له سرّ من أسرار العبادات، فيعلّم القلب ذاك المكشوف بجدّ واجتهاد"14.
آثار التفهيم ونتائجه
لا ننسى بأنّ من أهمّ معاني القلب هو التوجّه والذكر والحضور والانشغال، فجميع انشغالاتنا واهتماماتنا تنبع من قلوبنا، ولهذا يجب أن نعتني بالقلب أشدّ العناية، لأنّه يرسم توجّهاتنا الكبرى في الحياة، وقد جاء في الحديث ما يبيّن أنّ مصير الإنسان تابع لتوجهاته القلبيّة، كقوله عليه السلام: "يُحشر المرء يوم القيامة مع من أحبّ"15، وقوله عليه السلام: "لو أحبّ أحدكم حجراً لحُشِر معه"16.
ويكفينا قوله تعالى ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾17.
ولا يخفى بأنّ توجّهات القلوب تنبع من شدّة رسوخ ما يُتوجّه إليه فيها. فلا يكفي لتوجّه القلب إلى معنى ما أن يكون حضور هذا المعنى في القلب عابرًا أو سطحيًّا، لأنّه سرعان ما يزول، ولهذا كان التفهيم وسيلة لاستقرار المعاني وتثبيتها في القلب، وعلى أثر ذلك، ينهض القلب إلى مداومة الذكر. وليس الذّكر سوى شدّة حضور الحقائق الإلهيّة، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ونتيجة هذا التفهيم هو أنّه بعد مدّة من المواظبة، ينفتح لسان القلب ويصبح القلب ذاكرًا ومتذكّرًا، ففي أوّل الأمر كان القلب متعلّمًا واللسان معلِّمًا، وكان القلب ذاكرًا بذكر اللسان وتابعًا له في الذكر. وأمّا بعدما انفتح لسان القلب يصبح الأمر معكوسًا، فيكون القلب ذاكرًا أوّلاً، ويتبعه اللسان في الذكر والحركة.
بل ربّما يتّفق للإنسان في حالة النوم أن يكون لسانه ذاكرًا تبعًا للذكر القلبيّ، لأنّ الذكر القلبيّ لا يختصّ بحال اليقظة. فإذا كان القلب متذكّرًا، يكون اللسان التّابع له أيضاً ذاكرًا، ويسري الذكر من ملكوت القلب إلى الظاهر ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾18.
وبالجملة، ففي أوّل الأمر لابدّ أن يلاحظ الإنسان هذا الأدب، أي التفهيم، حتّى ينفتح لسان القلب الذي هو المطلوب الحقيقيّ"19.
علامة حصول التفهيم
هل يكفي أن يقول الإنسان: إنّني متأكّد ممّا أسمع وواثق بما أعتقد؟ أم أنّ عليه أن يعتني بحالات قلبه ليعرف منه الصحيح من السقيم؟ وإذا كان القلب دليل الحقيقة، فما هو دليل القلب؟
القلب هو الحبّ، والحبّ هو الإقبال بفرح وسرور، فما هي علامة استقرار الفهم في القلب؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:
"وعلامة انطلاق لسان القلب أن يرتفع تعب الذكر ومشقّته ويحصل النشاط والفرح، ويرتفع الملل والألم، كشأن الإنسان إذا أراد أن يعلّم طفلًا لم يشرع في التكلّم، فما دام الطفل لم يتعلّم النطق، فإنّ المعلّم يكون في تعب وملالة، فإذا انفتح لسان الطفل وأدّى الكلمة التي علّمه إيّاها ارتفعت ملالة المعلّم، بل نجد المعلّم يؤدّي الكلمة تبعًا لأداء الطفل من دون ألم وتعب.
فالقلب أيضًا في أوّل الأمر هو طفلٌ ما انفتح لسانه بالكلام، ولا بدّ له من التعلّم وتلقّن الأذكار والأوراد. فإذا انفتح لسان القلب، يكون تابعًا له وترتفع مشقّة الذّكر وملالته وتعب التعليم.
وهذا الأدب بالنسبة إلى المبتدئين ضروريّ جدّاً"20.
* الآداب المعنوية للصلاة في ضوء فكر الإمام الخميني(قده)
1- التزمنا في هذا الدرس والدروس اللاحقة ترتيب الإمام الخمينيّ قدس سره في كتابه الآداب المعنويّة للمطالب، وإن تراءى هنا أنّ التفهيم مرتبة متقدّمة.
2- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 42.
3- الامام جعفر الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 55.
4- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 44 - 45.
5- الشيخ الحر العاملي، محمد بن حسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، 1409هـ.، ط 1، ج 6، ص 207.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص 167.
7- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 43 - 44.
8- الفيض الكاشاني، محمد محسن بن مرتضى، الوافي، أصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، 1406 هـ، ط 1، ج 8، ص 699.
9- سورة المائدة، الآية 118.
10- المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، نشر دار إحياء التراث العربي، 1403هـ.، ط 2، ج 16، ص 293.
11- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 74.
12- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 248.
13- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 44.
14- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 42.
15- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص 81.
16- الهاشمي الخوئي، الميرزا حبيب الله، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة وتكملة منهاج البراعة، ترجمة: حسن حسن زاده الآملي، ومحمد باقر كمرئي، تحقيق وتصحيح: إبراهيم ميانجي، طهران، المكتبة الإسلامية، 1400 هـ، ط 4، ج 14، ص 281.
17- سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89.
18- سورة الإسراء، الآية 84.
19- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 43.
20- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 43.